هذه الأغنية لسيدة الغناء العربي تُعتبر مثل لوحة الموناليزا .
روعة الموناليزا أنها تحمل معنيين متناقضين تماماً . ننظر إليها بحال الحزن نراها تواسينا بحزن ، ننظر إليها بفرح فتشاركنا الفرح . عجيب هذا الرسام ( ليوناردو دافنشي ) على قدرته . كل الممثلين في الدنيا لا يستطيعون حمل هذين التعبيرين معاً و هم أحياء فكيف به يبث التعبير في الجماد .
محمد عبد الوهاب
لا أملك ناصية اللغة لأكتب شيئاً مما بداخلي عن هذا الموسيقار بعد اسمه أو قبله.
محمد عبد الوهاب ... لدي ما أقوله .
أنت عمري :
فضاء لم يجرؤ أحد على اقتحامه.
بالترتيب : الموسيقار بليغ حمدي كان اسم جديد صاعد ، فتح الدائرة المغلقة لأم كلثوم و دخل اسمه بين ( القصبجي و السنباطي وزكريا احمد ) وما أدراك من كل واحد منهم .
لكن دخوله كان كاسم جديد فقط وليس أكثر ، فأعطاها ( أنساك ده كلام ؟ ، حب إيه ؟, أنا وأنت ظلمنا الحب ، بتفكر في مين ؟ سيرة الحب ) وكل هذه الألحان كانت ضمن قيود أم كلثوم من التطريب والاستعراضات الصوتية والتوزيع الموسيقي للتخت الشرقي البحت واللوازم الموسيقية و المقدمة المقيدة – القصد من المقيدة ليس تصغيراً لهذه الأعمال أبداً -... ثم الموسيقار محمد الموجي ( للصبر حدود ) ضمن نفس القيود .
أما حين التقت محمد عبد الوهاب ، هنا – حاجة تانية خالص –
كان يقارع كل من صنعوا عالم أم كلثوم ، فهل يدخل هو عالمهم و يتأطّر بالصرح الذي أشادوا؟؟؟؟ لا أظن .
قالت له أم كلثوم : إن لي ما تعرفه عني .
قال : لكن لدي مشكلة الشباب .
عبد الوهاب عبقري لا شك . طلب قصيدة من أحمد شفيق كامل ، على ألا تأخذ المعاني آخر قوتها . كي يأخذ راحته باللحن – ولَي ذراع بعض القيود المفروضة .
أنت عمري ، استجابت لكل القيود و الشروط و تجاوزت وبجدارة .
في المقدمة : لأول مرة ينفرد الإيقاع بهدوء و وقار وأرستقراطية ، لأول مرة يدخل الغيتار بصدر المقدمة ، لأول مرة تحصل اللوازم الموسيقية على بطولة وشخصية لهذا الحد بحضرة أم كلثووووووووووووووم ، ليكون الملحن وكأنه يقف بجانبها ليحصل على التصفيق والثناء .
غيّر بداية الكلمات من شوقوني عينيك ، ليصبح رجعوني عينيك .
أما الإيحاء اللحني فكان كما الموناليزا .
رجعوني عينيك لأيام اللي راحوا .... : أطلق مكنون الكلام ومثله ، كعاشقة شاردة النظرات تبوح بمكنونها...
ثم بدأ اللحن الموزون وكل جملة تعاد مرتين ، بالمرة الأولى مطابقة للتطريب وإظهار الصوت العظيم لأم كلثوم ، وبالإعادة لنفس الجملة يتغير التوزيع الموسيقي ويبرز أكثر ، سيما صوت و أداء الإيقاع الذي يعلو ليطابق الجملة نفسها للرقص ودم الشباب – بالمفهوم العام لمصطلح دم الشباب - ( هذا بتسجيل الأغنية بالاستوديو ، لأن إرادة الملحن تحصل كما يريد ، أما بالحفلات فتتوه وتتناثر ) وهذا أكثر ما يظهر باللازمة الموسيقية ما قبل ( أد إيه من عمري قبلك راح ) وبالغناء أيضاً ، فيها مفارقة خارقة ، إيحاء سيمفوني (أرستقراطي ) و ترنيم.
أما ما قبل ( هات عينيك تسرح بدنيتهم عينيا ) فاللازمة الموسيقية إيقاعية الأداء ، مستوحاة من ترنيمات شباب الحارة المارين على الأرصفة والمفعمين بالمجون والانعتاق وفرحة من حصل على مبتغاه . ولهذا كانت أكثر مواضع الأغنية شهرة وترديداً ، وذلك لقربها بل تطابقها مع نبض وحيوية الشارع .
إلى أن يبدأ الرقص الشرقي للمحترفات بأصول هز الخصر والدلع و ( الغنج ) إذ أنه من أسمى وأقدم الفنون و التعبير الجسدي ، وهذا يظهر باللازمة التي تسبق ( يا أغلى من أيامي ) .
هكذا تكون أنت عمري قد حققت ما حققته الموناليزا. التطريب والرقص بكل جملة ( نفس الجملة ) ولهذا أيضاً كان تصنيفها أنها أشهر أغنية عربية بالقرن العشرين والأكثر ترديداً ، بمقابل تصنيف الأطلال كأعظم أغنية عربية ، وفكروني كأرقُّ أغنية .
بعد هذا استطاع بليغ حمدي ومحمد الموجي وكمال الطويل أن يدخلوا بألحان و إيقاعات وآلات وجمل موسيقية ذات بطولة لحنية وأن يقف بجانب أم كلثوم ويقول : هذه شخصيتي بالأغنية .
( الحب كله ، فات الميعاد ، حكم علينا الهوى ، بعيد عنك ، ألف ليلة و ليلة ... / إسأل روح / غريب على باب الرجاء ... )
الحديث يطول لو دخلنا معاً بتقنيات محمد عبد الوهاب اللحنية بأغنية فكروني ، حيث جعل اللوازم الموسيقية للأغنية محاورة موازية لأم كلثوم ( اسكيتش بين أم كلثوم والآلات الموسيقية ) وكيف جعل الطبلة ( الدربكة ) تزغرد منفردة على الوحدة و نص بحضرة أم كلثوووووووووم والأعظم هو كيف أن انفراد الطبلة بالوحدة و نص كان بمكان لا يمكن تبديله ، كعضو من جسم لا يمكن الاستغناء عنه حيث قال عبد الوهاب : من يقدر على نزع هذه الجملة أو تبديلها فليفعل ، حتى أنا لا أقدر .
ليلة حب : أدخل أم كلثوم بالحواري وأعراس الفقراء التي تقام بالساحات والطرق ، بالمقدمة والمطلع الغنائي . وبنفس الأغنية كانت لوازم لرقص الباليه الأرستقراطي ، قبل ( يا حياتي ونبض قلبي ونور حياتو ) ثم رقص شرقي راقي لسيدة كعب حذاءها عالي ، باللازمة ما قبل ( لو كل حب ..... ويايا و أنت بعيد ويايا )
ثم جو الرقص على الجليد بآخر مقطع .
كل مقطع موسيقي من أي أغنية قادر أن ينفصل عنها ليكون قطعة موسيقية بحد ذاتها . هذا بحضرة أم كلثوم .
محمد عبد الوهاب استطاع أن يكون مثل جاسوس ثنائي الولاء ، نصف ولاءه لنفسه ونصفه الآخر لأم كلثوم وكل نصف أنجز به ما يعجز الكثيرون عنه . أما مع الباقين فكان جله لنفسه .
كان يجعل من عبد الحليم حافظ تمثال يقف نصف ساعة على المسرح بين لازمة موسيقية وأخرى، يستعرض عليه قطع موسيقية مشبعة ، ثم يقول عبد الحليم جملتين ويقفل ، ثم قطعة موسيقية طويلة مكتملة بحالها ، ثم جملتين للمطرب وهكذا ... مع نجاة و فايزة أحمد ووردة . يقفون كخيال أو نائب أو مندوب عن عبد الوهاب يرسل معهم مرسال للجمهور فيحصل هو على التصفيق والثناء .